فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

ثم وصفهم الله تعالى فقال: {صم} أي عن سماع الحق لأنهم لا يقبلونه وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه {بكم} أي خرس عن النطق بالحق فهم لا يقولونه {عمي} أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ومن لا بصيره له كمن لا بصر له فهو أعمى، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم وأن ينظروا إليه بعيونهم جعلوا كمن تعطلت حواسه وذهب إدراكه قال الشاعر:
صمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء كلهم أذن

.قال الفخر:

اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم، وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى، أما قوله: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ففيه وجوه:
أحدها: أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذ الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبدًا.
وثانيها: أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، وعن الضلالة بعد أن اشتروها.
وثالثها: أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه. اهـ.

.قال أبو حيان:

قرأ الجمهور: {صم بكم عمي} بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية، لكنها في موضع خبر واحد، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان، فصح الألسن، بصراء الأعين، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم، ولا تلمحوا أنوار الهداية، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر، أنشد الزمخشري من ذلك أياتًا، وأنشد غيره:
أعمى إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري جارتي الخدر

وأصم عما كان بينهما ** أذني وما في سمعها وقر

وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين، وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون.
والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوًا عنه، صالحًا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:
لدي أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم

وحذف المبتدأ هناك لذكره، فلا يقال: إنه من باب الاستعارة، إذ هو كقول زهير:
أسد علي وفي الحروب نعامة ** فتخاء تنفر من صفير الصافر

والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز، وذلك لعدم قبولهم الحق.
وقيل: وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم.
والعرب إذا سمعت ما لا تحب، أو رأت ما لا يعجب، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه.
قال تعالى: {كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا} وقالوا: {قلوبنا في أكنة} الآية.
قيل: ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالًا من البهائم وأشبه حالًا من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر.
فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد ابراهيم، على نبينا وعليه السلام، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال: {يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا} وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء، وإن كان قد قاله بعض المفسرين.
قال: دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا} وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صمًا بكمًا عميًا، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهًا: أحدها: أن يكون مفعولًا.
ثانيًا لترك، ويكون في ظلمات متعلقًا بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون.
حال.
الثاني: أن يكون منصوبًا على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما.
الثالث: أن يكون منصوبًا بفعل محذوف تقديره أعني.
الرابع: أن يكون منصوبًا على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر.
الخامس: أن يكون منصوبًا على الذم، صمًا بكمًا، فيكون كقول النابغة:
أقارع عوف لا أحاول غيرها ** وجوه قرود تبتغي من تخادع

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: {فلما أضاءت ما حوله} وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم.
وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم.
ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب.
ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الاسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم.
فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجع إلى إيمان.
فإن كانت الآية في معنيين، فذلك واضح، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع إليه أبدًا، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها.
قال قتادة، ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم، وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، وقيل: لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى، وقيل: لا يرجعون إلى ثواب الله، وقيل: عن التمسك بالنفاق، وقيل: إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولًا للهداية، وبعث إليهم رسلًا بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم، والجري على مألوف آبائهم، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم.
وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعًا وإلى العبد لملابسته له، ولذلك قال في هذه الآية: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى.
وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازمًا، وإن كان متعديًا كان المفعول محذوفًا تقديره فهم لا يرجعون جوابًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} أخبارٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ضمير المنافقين، أو خبر واحد بالتأويل المشهور، كما في قولهم: هذا حلوٌ حامض والصممُ آفةٌ مانعة من السماع، وأصلُه الصلابة واكتنازُ الأجزاء، ومنه الحجرُ الأصم، والقناةُ الصماء، وصَمام القارورة: سِدادُها، سمي به فقدانُ حاسة السمع لما أن سببه اكتنازُ باطن الصّماخ، وانسدادُ منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواءٌ يحصل الصوت بتموجه، والبُكم الخُرس، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يُبصَر، وُصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما أنهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم، وأبَوْا أن يتلقَّوْها بالقبول، ويُنطِقوا بها ألسنتهم، ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينظروا إلى آيات التوحيد المنصوبة في الآفاق والأنفس بعين التدبر، وأصروا على ذلك بحيث لم يبقَ لهم احتمالُ الإرعواء عنه، صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية، وهذا عند مُفْلقي سَحَرة البيان من باب التمثيل البليغ، المؤسس على تناسي التشبيه كما في قول من قال:
ويصعَدُ حتى يظنَّ الجهول ** بأن له حاجةً في السماءْ

لما أن المقدر في النظم في حكم الملفوظ، لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكرُ المستعار له بالكلية، حتى لو لم يكن هناك قرينة تحمل على المعنى الحقيقي، كما في قول زهير:
لدى أسدٍ شاكي السلاحِ مُقذَّف ** له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ

{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها، أي هم بسبب اتصافِهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيّعوه أو عن الضلالة التي أخذوها، والآيةُ نتيجةٌ للتمثيل، مفيدةٌ لزيادة تهويلٍ وتفظيع، فإن قصارى أمرِ التمثيل بقاؤهم في ظلماتٍ هائلة من غير تعرضٍ لمَشْعَريْ السمع والنطق، ولاختلال مَشعَرِ الإبصار، وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى، كالضمائر المتقدمة.
فالآية الكريمة تتمة للتمثيل، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجردَ انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها، بل اختلت مشاعرُهم جميعًا، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم، لا يرجعون ولا يدْرون أيتقدّمون أم يتأخرون، وكيف يرجِعون إلى ما ابتدأوا منه، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدَلالة على استمرار تلك الحالة فيهم، وقرئ صمًا بكمًا عميًا، إما على الذي كما في قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} والمخصوصُ بالذم هم المنافقون، أو المستوقدون وإما على الحالية من الضمير المنصوب في تَرَكهم، أو المرفوع في لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم، فالضميران للمستوقدين. اهـ.

.قال الألوسي:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.
الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا كأحمر وحمراء أم انفردا لمانع في الخلقة كغرل ورتق فإن كان الوصف مشتركًا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء كرجل أليّ، وامرأة عجزاء فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشًا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه قولهم قناة صماء وصممت القارورة.
والبكم الخرس وزنًا ومعنى وهو داء في اللسان يمنع من الكلام وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئًا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرًا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازًا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله:
أعمى إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري جارتي الخدر

وأصم عما كان بينهما ** أذني وما في سمعها وقر

وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكمًا، وذكرهما قصدًا حكمًا أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثًا وهو أنه لا نزاع أن التقدير: هم صم الخ لكن ليس المستعار له حينئذٍ مذكورًا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال ولعله أولى إن هم المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلًا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله: {صم} الخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدًا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجته إذ قد علم من قوله سبحانه: {لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 2 1] و{لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 7 1] أنهم صم عمي، ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيًا يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط حل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه ب {لاَّ يُبْصِرُونَ} أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولًا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر.
ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 2 14] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذٍ إلى التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله:
أعلام ياقوت نشر ** ن على رماح من زبرجد

فيفرض هنا حصول الصمم والبكم والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل: لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلًا عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم صمًا وبكمًا وعميًا بالنصب فإن الأوصاف حينئذٍ تحتمل أن تكون مفعولًا ثانيًا لترك و{في ظلمات} [البقرة: 7 1] متعلقًا به أو في موضع الحال و{لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] حالًا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديًا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير {لاَّ يُبْصِرُونَ} جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذا ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 7 9] فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله بل أدهى وأمرّ القول بأن جملة {لاَ يَرْجِعُونَ} كذلك ومتعلق لا يرجعون محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
الوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من {أُولَئِكَ الذين اشتروا} [البقرة: 61] الخ والأخير على تقدير أن يكون من {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] الخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤا منه، والأعمى لا ينظر طريقًا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتًا من صوب مرجعه فيهتدي به والفاء للدلالة على أن اتصافهم بماتقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
ومن البطون: صم آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبًا عمي عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه.
وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا. اهـ.